top of page
بحث
  • صورة الكاتبمحمد حسن أطرش

القطب السالب!

تاريخ التحديث: ٢٦ يوليو ٢٠٢٣


القطب السالب

هناك نقطة بالغة الأهمية بخصوص المقطع الذي انتشر مؤخراً حول (الشيخ / المُعمم / رجل الدين / الواعظ / الداعية ... أو اختاروا التسمية التي تريدون) الذي كان يخطب في الناس ضمن دمشق المحتلة حول سبب ما وصلت إليه البلاد من حال، وكيف أرجع سبب كل هذه المصائب التي عاشتها سوريا إلى ما زعم بأنه (فساد الناس فقط) لاوياً أعناق النصوص القرآنية والنبوية بما يوافق زعمه، ومتجاهلاً تمام التجاهل أن المافيا الأسدية التي تحكم البلاد هي التي جعلت سوريا منذ أكثر من نصف قرن في حضيض الحضيض اقتصادياً واجتماعياً ومعرفياً وأخلاقياً.


النقطة التي أحببت أن أشير إليها، أن هذا الساذج الضالّ الذي يزعم أنه (عارف بالله) ليس رجل مخابرات أسديّ يقبض راتبه من فرع الأمن العسكري أو المخابرات الجوية في نهاية كل شهر كما يحلو للبعض أن يصوره، وكما تم تصوير عشرات رجال الدين منذ اندلاع الثورة السورية حتى يومنا هذا! نعم ... هذه هي الحقيقة التي يجب أن نعيها جيداً إذا أردنا فعلاً إصلاح مجتمعنا وتنوير وعينا بدلاً من تضليل الناس ورش المزيد من بهارات الجهل والضياع في أتون الظلمة التي تحياها بلادنا.


يجب أن نعي تماماً ... أن هذا الرجل – ومثله العشرات – ينتمي إلى منظومة فكرية كاملة تم بناؤها عبر قرون ... تلك المنظومة تقوم على فكرة أساسية مفادها أن الحاكم (إله) لا يجوز المساس به مهما كان ظالماً ومجرماً بل وحتى كافراً بكل مقاييس الشرع البديهية والواضحة.


وعليه، فعندما يصعد هذا الرجل إلى المنبر أو يعتلي كرسي الدرس، ويخطب في الناس مرجعاً سبب فسادهم إلى ألف سبب وسبب، دون أن يجرؤ على الاقتراب من الذات (السلطانية) المقدسة للحاكم ونظامه وحاشيته، فهو لا يفعل ذلك عامداً أو قاصداً التطبيل والتزمير والتنزيه، وهو في فعله هذا لا يتلو نشرة أعطته إياها أفرع المخابرات، وهو في فعله هذا لا يتلقى أوامره من أحد، ولا يخفي تحت عمامته قبعة عسكرية! لا أبداً.


هذا الكائن يعمل كروبوت مبرمج ليؤدي وظائف معينة من تلقاء نفسه، دون أن تتكلف أجهزة السلطة جهد تلقينه أو توجيهه أو حتى الصرف عليه! هذا الكائن وأشباهه بل والمنظومة الدينية الكاملة التي ينتمي إليها قامت منذ مئات السنين على تقديس الحاكم أياً كان انتماؤه، ووعظ الناس بأسلوب مخدر خشبي أجوف، يجعلهم منفصلين عن الواقع، ويبعدهم كل البعد عن جوهر الحق والعدالة والشجاعة في الدين الإسلامي الحنيف.


هذا التيار الهدام لا يختلف في شيء عن (داعش) ومثيلاتها، لأن (الزائد أخو الناقص) كما يقال في المثل العاميّ، ولإن كانت (داعش) وأخواتها هي القطب الموجب في محرك التطرف وتشويه الدين، فهذا التيار الخنوع الذليل النفعي هو القطب السالب للمحرك ذاته، وكلاهما أداة في أيدي الأنظمة الطاغوتية لتمزيق شمل الأمم وتغييب وعي الشعوب.


(داعش) تهدم وعي الأمة بفكرة أن الحياة الآخرة هي الأهمّ، وعليه تعمل على جعل الفرد يهدم كل حياته وحياة من حوله ويخربها بدعوى الوصول إلى الآخرة والنعيم الأبدي! أما هذا الفكر السلبيّ المضاد فهو يعمل على حصر الفرد في مصالح الدنيا، وفكرة أنني إذا لم أطع الخالق (ومعه الحاكم الذي يستمد سلطته من الخالق) فإنني سأعيش في (جوع وخوف) على حد زعم هذا الشيخ الضالّ ضمن مقطع الفيديو إياه! وبذلك يرسخ المصالح الآنية والأنانية للفرد ضمن الحياة الدنيا فقط والعيش فيها بسلام وأمان ورغد، بعيداً عن حقيقة النضال ضد الظلم والجهاد ضد المجرمين، بل على العكس ... يعمل هذا التيار الفكري السالب على تجريم الثوار والمناضلين والمجاهدين، وإبقاء وعي الناس في قفص المصالح الدنيوية الرخيصة.


وفي كلا الحالتين – داعش والتيار السلبي – يكون وقود التضليل بالاتجاهين السالب والموجب هو الشعوب الجاهلة المغيبة الوعي في كل مكان! حيث وجد الفكر الداعشي ضالته في المجتمعات الفقيرة والقبلية والبعيدة عن المدنية الحديثة، بينما وجد التيار السلبي وقوده في سكان المدن الكبرى وأفراد الطبقات المتوسطة فما فوق ... وبدعم مطلق من طبقة التجار الكبار الذين يهمهم الحفاظ على مصالحهم وثرواتهم ومكاسبهم ... وفي كلا الحالتين، يضيع الوعي والفكر السليم، ويضيع جوهر الدين الإسلامي الحنيف البعيد كل البعد عن التطرف باتجاه السالب أو الموجب.


هنا نجد فعلاً بأن الكارثة في هذا الفكر الذي ينتمي إليه هذا الشيخ الجاهل، هو أنه فكر منتشر ومتأصل في المدن الصناعية والتجارية الكبرى كدمشق وحلب ... هذا الفكر هو الذي أسهم بالدرجة الأولى في شحّ النشاط الثوري ضمن تلك المدن الكبرى، وفي تثبيط عزائم الناس، وبتصوير الثورة كلها على أنها (فتنة) أو (مؤامرة) دون التطرق أبداً لجرائم المافيا الأسدية قبل وبعد الثورة. ولاحظوا بأن أيّ مفتي حكم (كنيسة الدين) منذ استلام المافيا الأسدية كان ينتمي حكماً لهذا التيار، وكل (نجوم) الدين والمشيخة والدعوة في سوريا ينتمون لهذا الفكر بشكل واضح.


وعليه، فإن مجابهة هذا الفكر والوقوف ضده لا تكون إلا بمعرفة أصله وحقيقته، وبالابتعاد عن التهم المعلبة الجاهزة ضده بأنه عميل للمخابرات، فطبعاً هو يخدم المخابرات والنظام من حيث لا يدري، إلا أن الفكر الذي لديه متأصل، وعن قناعة! ولا تكون محاربة القناعات بكيل الاتهامات والتشبيح المضاد والسخرية، وإنما بالعمل الدؤوب لتنوير عقول الناس وإضاءة وعيهم وانتشالهم من براثن هذا الفكر الهدام، الذي يقدم مصالح الحياة الدنيا على أية مصلحة أخرى، ويصور الدين على أنه علاقة مصلحية أنانية آنيّة بالخالق جل وعلا ... فقط لا غير، علاقة خنوع وطاعة للحاكم الذي هو ظل الله على الأرض، لكي نحيا بأمان وبحبوحة ورخاء ... بعيداً عن كل ماله علاقة بالحق والعدل والمثل العليا النبيلة.

٥٣ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page