top of page
بحث
  • صورة الكاتبمحمد حسن أطرش

السوري النبيل


السوري

ما أنبلك أيها السوري الثائر!


المطلوب اليوم من السوري الثائر – واسميه "الثائر" تمييزاً له عن السوري الخانع الهلامي، والسوري الوصولي المنتفع، والسوري المؤيد العبد – أن ينسى كل شيء ... كل شيء ... ولا يفكر إلا بفلسطين وقضية فلسطين! المطلوب منه أن يدوس على قلبه، وينسلخ من كينونته، ويكوي كل جراحه الغزيرة النازفة بماء النار، وأن ينفض أطفاله المشردين المصابين الجائعين عن يديه ويرميهم بعيداً ... ثم يهرع إلى أقرب ساحة أو منصة تواصل اجتماعي ليصرخ باسم فلسطين ومعاناة فلسطين!


نعم ... المطلوب منك أيها السوري أن تنسى وجعك، وأن تمزق أعلامك، وأن ترمي وراءك كل مبادئ قضيتك، وبالمقابل ... يجب أن تنتفض – مع كل غثاء السيل – لتهتف وتندد وتجتر ذات الشعارات الممجوجة المشروخة التي تتردد منذ 75 عاماً بلا توقف، علّ دولة الكيان تخاف قليلاً أو تخجل على نفسها ... فتنسحب من فلسطين وتعيدها إلى أهلها استحياءً ومجاملة!


واجب عليك أيها السوري أن تقاطع، وأن تتضامن، وأن تساهم، وأن تندد، وأن تستنكر، وأن تشارك في المسيرات والمظاهرات والصراخ وحمل الأعلام، وأن تعبّر في حسابات التواصل الاجتماعي لديك عن موقفك الداعم للقضية وللمقاومة بكل صراحة، وأن ترمي كل الملابس عن حبال الغسيل على شرفتك لتضع بدلاً منها علم فلسطين ... وإلا فالويل لك!


يجب عليك أيها السوري الثائر أن تصرخ لأجل غزة ... والمقاومة ... والقضية ... وأن تغمض عينيك عن كل ما شاهدته من صور "سليماني" التي ملأت شوارع غزة، وكل مشاهد التقبيل والتهليل التي شاهدتها لقادة "المقاومة" وهم يتمسّحون على أقدام قاتل أطفالك، ومدمر منزلك، وممزق كل حياتك وأحلامك، وأن تصم أذنيك عن كل المديح الذي أهالوه عليه، وكل النفاق الذي يمطرون به الكيان الغاصب المعتدي "الآخر" الرابض شرق الأمة العربية.


من الواجب عليك أيها السوري الثائر ألا تحزن عندما يقرنون اسم "المقاومة" بكل مالديك من ذكريات بغيضة عنها وعن "مجاهديها" الأبطال الأشاوس الذين تاهوا – بالصدفة البحتة – عن طريق "القدس"، فوجدوا أنفسهم في الطريق إلى حارتك وقريتك ومدينتك، وخانهم التقدير – جلّ من لا يخطئ – فدمروا منزلك وقتلوا أطفالك بدلاً من أن يدكوا المستوطنات والثكنات العسكرية للمحتل. لا تحزن ... بل تسامى على وجعك، واخرج واهتف لـ "المقاومة" ولـ "الحق السليب" ولـ "القضية الأبدية" ... كل هذا وأنت تدفن طفلك الصغير الذي قتلته مدافع "المقاومة والممانعة" قبل قليل!


المطلوب اليوم من السوري الثائر الجريح المكلوم الذي يكاد أن يطير عقله شعاعاً من هول ما رأى من إجرام غير مسبوق في التاريخ كله ... المطلوب منه أن يتعالى على ألمه، ويتسامى على ذهوله، بل المطلوب منه أن يتحلى بإيمان ابراهيم الخليل، وصبر النبيّ أيوب، وحلم الأحنف بن قيس، وعلم ابن سينا، وعمق فلسفة ابن رشد ... كل هذا حتى يملك من الوعي والحكمة ما يعزل به عزلاً تاماً بين "نبل قضية فلسطين" وحقيقة ماعاناه من ويلات طوال نصف قرن باسم هذه القضية وكهنتها وتجارها! لا وبل أن ينسى تماماً أن منزله يقصف الآن بمدافع "المقاومة والممانعة"، وأن أطفاله ينزفون على قارعة الرصيف بعد أن انتشى "المقاومون" بانتصاراتهم عليه ... عليه أن يتناسى هذا كله، وأن يملك وعي السنين وحكمة الأقدمين ورسوخ الجبال ... ثم يخرج ليهتف لأجل فلسطين ولأجل قضية فلسطين!


عليه أن يدرك تمام الإدراك أن قادة "المقاومة" نبلاء أطهار أخيار ... وعليه أن يلتمس لهم العذر – بل ألف عذر – لأنهم يتمسحون بأحذية قاتليه ومشرديه ومدمري وطنه، ولأجل ذلك ... لابد له اليوم أن يهتف لأولئك القادة، وينشر مقاطع خطبهم الرنانة على منصاته الرقمية بكل فخر واعتزاز، وأن يدعو لهم بالنصر والتمكين والعزة ... هذا وإلا كان خائناً خسيساً عدم الشرف ومنعدم الاحساس والذوق والمرؤة!


المطلوب منك اليوم أيها السوري الثائر أن تمسح من ذاكرتك نهائياً مليون قتيل من ابناء شعبك، وعشرة ملايين مهجّر من وطنك، وأن تنسى وطنك نفسه ... وطنك الجميل الحلو الذي عاد عشرة قرون إلى الوراء بسبب ماحل فيه! انسَ ... وبدلاً من كل ذلك لا تتذكر سوى فلسطين، ولا تحزن إلا على غزة، ولا تجعل جسدك يقشعر إلا لأغاني المقاومة وأصوات الصواريخ "المباركة"!


المطلوب منك يا صديقي السوري أن تسحق قلبك بجزمة النفاق، وتبرمج تفكيرك على نغمة البلاهة والغباء، وأن تضبط موجة الإرسال والاستقبال في راديو روحك على موجات مراهقي الفكر وسفهاء الأحلام وتجار القضايا ... وأن تمحو بممحاة الغوغاء كل مافي روحك من ألم ودم وغضب وثورة ... هذا وإلا كنت خائناً وكافراً وعميلاً ومتعاطفاً مع العدو، وتحمّل آنذاك أطناناً من الخذلان تضاف إلى كل المخزون الهائل الذي تراكم لديك طوال 12 سنة مضت.


أتدرون أين المفارقة المدهشة في كل ذلك؟ وبعيداً عن التهكم والكوميديا السوداء في كل هذا الموقف؟


المدهش أن السوري الثائر سيفعل كل ذلك! نعم سيفعله! سيتسامى عن كل آلامه وجراحه وواقعه المرير ... وسيعلن تضامنه الصادق والعفوي والحقيقي مع اخوته في غزة، بعيداً عن أي انحياز عقائدي أو شعارات دوغامائية فارغة أو ارهاب سلطوي أو مجتمعي.


سيتضامن السوري مع مايحدث في غزة ليس لأجل فصيل مسلح، ولا لأجل قضية رابحة في بازارات المزايدات والشعارات، ولا أجل دولة أو منظمة أو كيان ... بل سيتضامن وسيتعاطف وسينصر اخوانه في غزة لأنه أدرى أهل الأرض بآلامهم ومعاناتهم، وأقرب انسان في الزمان والمكان إلى محنتهم وألمهم والرعب الذي يعيشونه.


لا يحتاج السوري الثائر إلى كل هذا الكم من النفاق والزيف والمراهقة الفكرية والتيه المعرفي لكي يتبنى قضية فلسطين وينصرها بكل ما أوتي من امكانات مادية ومعنوية، ولا يحتاج إلى مجهود كبير لكي يتسامى على كل الألم الذي عاناه طوال أكثر من نصف قرن من ما يسمى بمحور "المقاومة والممانعة"، وهو يملك من الوعي والحكمة والرصانة ما يكفي لكي يعزل هذا عن ذاك.


سينصر السوري الثائر الحر الشريف اخوته في فلسطين وغزة لأنه يعرف أنهم يحبونه، ويدعون له، وأنهم كانوا – منذ اللحظة الأولى – معه، مهما علت أصوات النشاز من قادة الزيف وكهنة النفاق وتجار بازارات القضايا.


سينصرهم لأنه انسان ... بل وانسان واعٍ وشريف وابن أصل، ويعرف تماماً أن الحرية لا تتجزأ، وأن الحق لا يموت، وأن المجرم واحد مهما تستر بالشعارات ومهما حمته الميليشيات ومهما رُفعت أيادي "الفيتو" لتدعمه في محافل السياسة.


هل عرفتم الآن لماذا يعتبر السوري الثائر ... انساناً نبيلاً حقاً؟

٢٦ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page