top of page

التشبيك هو الحل

  • صورة الكاتب: محمد حسن أطرش
    محمد حسن أطرش
  • 3 يناير 2018
  • 5 دقائق قراءة


التشبيك

بالرغم من امتلاك (حسن) لإجازة في الأدب الإنكليزي، إلا أنه وجد نفسه عاملاً في معمل للمواد الغذائية في قلب العاصمة الاقتصادية التركية العملاقة (إسطنبول) إذ لم يستطع حسن أن يجد عملاً ضمن اختصاصه منذ أن وطئت قدماه الأرض التركية مهاجراً إثر وطأة الحرب السورية، فاضطر للعمل في أي شيء متاح فقط لإعالة زوجته وطفلته الصغيرة. حسن لم يكن يفتقد الموهبة ولا النجاح في الماضي، فقد كان من الأوائل على دفعته عندما تخرج من جامعة حلب، وكان على وشك الحصول على درجة الماجستير لولا نشوب الحرب والمشاكل الأمنية المعقدة التي رافقتها، كما كان مترجماً ناجحاً ذو سمعة ذائعة الصيت بين عدة دور نشر عربية، وله عدد لا بأس به من الكتب المترجمة. فما الذي حدا بحسن لكي ينتهي مآله إلى عامل يقوم بعصر البندورة في معمل للمواد الغذائية المعلبة؟

لا شك أن حاجز اللغة الذي اصطدم به معظم المهاجرين السوريين في الدول التي هاجروا إليها كان هو العامل الأهم في عدم عملهم بمجالات مطابقة لاختصاصاتهم – وبالأخص الجامعيون وحملة الشهادات – وحتى من استطاع منهم كسر هذا الحاجز بعد جهد جهيد، فوجئ بعد ذلك بالتعقيدات الإدارية والبيروقراطية التي حالت بينه وبين إيجاد وظيفة محترمة لائقة بمستواه المهني أو العلمي. فقد تمكن (مهند) بعد جهد جبار من الوصول إلى مستوى ممتاز في اللغة التركية بهدف إيجاد عمل ملائم له كمهندس ميكانيك في الشركات التركية، إلا أنه اصطدم بواقع مرير يرفض توظيف الجامعيين السوريين في مناصب تليق بخبرتهم وشهاداتهم، إما لأســـباب تابعة لأصحاب الــشــركات أنفسهم، أو لأسباب تتعلق بالشؤون الرسمية والــحــكــومــيــة.

يقول مهند: لقد كنت أظن أنني سأجد الوظيفة المناسبة لي بمجرد إجادة اللغة التركية، إلا أنني فوجئت بألف عائق آخر يحول بيني وبين هذه الوظيفة! فأصحاب الشركات يرفضون توظيفي لعدم ثقتهم بخبرتي ويفضلون بطبيعة الحال توظيف المهندسين الأتراك، إضافةَ إلى أن العمل بشكل رسمي ومعترف به يتطلب شروطاً فائقة الصعوبة على الصعيد الرسمي، بدءاً من تعديل الشهادة لدى إحدى الجامعات التركية، وانتهاءاً بالحصول على إذن عمل، وحتى لو قمت بكل هذه الخطوات التي ستتطلب مني جهداً ووقتاً ومالاً – علماً أنني لا أملك لا الوقت ولا المال – فأنا لا أضمن أن أجد عملاً مناسباً في نهاية الـمـطـاف.

حالات كحالات حسن ومهند باتت كثيرة جداً في دول المهجر السوري، وهي تتخذ أحياناً صوراً مؤلمة ومهينة بحق أشخاص بذلوا الغالي والنفيس للوصول إلى مركز علمي مرموق، وكانوا في قمة الإبداع والتميز والنجاح في بلادهم قبل الحرب، لينتهي أمرهم عمالاً أقل من عاديين في مهن وورشات ومعامل لا ترحم. فما هو الحل الذي يمكن أن ينتشل أولئك السوريين من هذه المعاناة المؤلمة معنوياً قبل أي شيء آخر، أو على الأقل أن يخفف من وطأتها ولو شيئاً بسيطاً؟

الدكتور (حازم) طبيب أسنان وفد إلى تركيا منذ أواخر العام 2014 ليصطدم بدوره بهذا الواقع الأليم، إلا أن الدكتور حازم بطبيعته الاجتماعية الديناميكية لم يستسلم، وصمم على عمل أي شيء للتغلب ولو بشيء بسيط على هذا الواقع. مثله مثل كل الجامعيين من أمثاله اضطر الدكتور حازم للعمل في أحد المعامل لكسب قوت يومه، ولكنه في وقت فراغه كان يعمل على المجموعات التي أنشأها على منصات التواصل الاجتماعي لجمع أكبر عدد ممكن من الأطباء السوريين في منظومة إلكترونية افتراضية تحولت شيئاً فشيئاً إلى ما يشبه النقابة.

يقول الدكتور حازم: بدأ الأمر بمجموعة صغيرة على تطبيق (واتساب) أنشأتها مع بعض زملائي الأطباء في تركيا بغرض الدردشة والمزاح وتفريغ الهموم لا أكثر، وكنا بمرور الوقت نضيف المزيد والمزيد من الزملاء الذين كانت ظروفهم غالباً متشابهة في معظم المدن التركية. بعد ان تجاوز عدد أعضاء تلك المجموعة المائة عضو، خطرت على بالي فكرة هائلة! لم لا نعطي تلك المجموعة صفة رسمية اعتبارية، ونقوم بتوسعتها على مختلف منصات التواصل الاجتماعي الأخرى لضم كل الأطباء السوريين في تركيا؟ ليس هذا فقط، بل إن تمكنا من ذلك، سنستطيع نقل معاناتنا بصورة واضحة جلية مباشرة إلى أعلى المستويات الرسمية التركية التي ستتحرك وقتذاك بلا أدنى شك لإيجاد حل لأوضاعنا المؤسفة.

وكما توقع الدكتور حازم، نمت شبكة التواصل بين الأطباء السوريين في تركيا كالنار في الهشيم، وتمكن الدكتور حازم من افتتاح مكتب لها وترخيصها كجمعية رسمية تضم معظم الأطباء السوريين في تركيا، ومن خلالها استطاع أن يوصل صوت الأطباء السوريين إلى مستويات حكومية غير مسبوقة، وأن يقابل مسؤولين أتراك استطاع بعضهم أن يوصل تلك المعاناة إلى قبة البرلمان التركي وإلى مجلس الوزراء. ويبدو أن الوضع سيتحسن قريباً جداً بالنسبة إلى الأطباء السوريين الذين سيتمكنون من العمل بشهاداتهم على الأقل في مشاف خاصة لعلاج السوريين الذين تجاوز عددهم الملايين الثلاثة في شتى أنحاء تركيا.

هل كان يمكن للأطباء السوريين في تركيا أن يحققوا هذا الإنجاز وأن ينبهوا السلطات التركية إلى أوضاعهم المزرية لولا فكرة الدكتور حازم؟ الجواب هو: لا غالباً! أو ربما كانت معاناتهم ستطول كثيراً جداً ريثما تجد حلاً لها بالمصادفة أو بقوة الدفع الذاتي. إن هذا التكتل الذي بدأ إلكترونياً كان هو الحل السحري الذي من خلاله علا صوت تلك الفئة من السوريين، وبكل بساطة يمكن لنا أن نقول ان الحل السحري الأمثل لمشاكل اللاجئين السوريين بشكل عام، ولشؤون عملهم ومعيشتهم في دول المهجر بشكل خاص، هو (التشبيك).

لقد أصبح التشبيك هو العلامة الفارقة لعصرنا الحالي بعد الانتشار الكاسح لوسائل التواصل الاجتماعي وإمكانية استخدمها عن طريق أجهزة الهاتف المحمولة الذكية التي أصبح يمتلكها أصغر طالب في المرحلة الثانوية وانتشرت بين مختلف شرائح المجتمع بلا أي استثناء. وعن طريق هذا التشبيك تمكنت العديد من الفعاليات حول العالم من إيصال صوتها وإظهار قضاياها لأصحاب الشأن وللعالم أجمع في بعض الحالات. بل وحتى كان التشبيك عبر منصات التواصل الاجتماعي عاملاً أساسياً وحاسماً في المد الثوري الذي اجتاح العالم العربي والمنطقة منذ أواخر العام 2010 حتى اليوم.

واليوم وبعد انتشار أكثر من سبعة ملايين سوري في أنحاء العالم، وتوزعهم في العديد من الدول شرقاً وغرباً، بات من الملح جداً ربط أولئك السوريين من أصحاب الاهتمام الواحد ببعضهم البعض في مجتمعات اللجوء التي انتهوا إليها، وبالأخص فيما يتعلق بموضوع العمل والحصول على وظيفة مناسبة لكل صاحب اختصاص من أولئك السوريين عوضاً عن إهدار جهودهم وخبراتهم الكبيرة في أشغال شاقة لا يكاد عائدها يكفيهم مؤونة العيش الباهظة في تلك الدول. إذ أن تشبيك أصحاب الفعاليات المتماثلة ضمن كيان واحد - ولو كان افتراضياً - يساهم بشكل حاسم في إيصال صوتهم الجماعي إلى الجهات الرسمية المسؤولة، بما يحقق لهم مطالبهم ويلفت الرأي العام إلى حالتهم ويسهم في طرح الحلول المختلفة للتخفيف من وطأة معاناتهم.

كما أن التشبيك ليس حلاً مطروحاً في سياق التوظيف ومحاربة البطالة فحسب، بل هو وسيلة فعالة بيد التجار والصناعيين وأصحاب رؤوس الأموال من السوريين الذين اضطروا أيضاً إلى مغادرة البلاد هرباً من زلزال الحرب، إذ أن التشبيك بين بعضهم البعض كان له على أرض الواقع تجارب باهرة ساهمت في تذليل العديد من الصعوبات الإدارية والحكومية بل وحتى التسويقية أمامهم، بما جعلهم يصلون أيضاً في بلدان المهجر إلى مستويات رائعة تفوقت في بعض الحالات على أوضاعهم القديمة في سوريا قبل الحرب.

اليوم تمكن (حسن) من خلال تشبيكه لعدد كبير من المعلمين وخريجي الاختصاصات المختلفة من السوريين المقيمين في مدينة إسطنبول من إنشاء مدرسة خاصة للطلاب السوريين في أحد ضواحي المدينة، إذا ساهمت تلك الشبكة التي أسسها حسن في إيصال صوت المعاناة المريرة التي يعاني منها الجامعيون السوريون إلى السلطات التركية التي أولت الموضوع عناية فائقة بعد أن أظهر ذلك التكتل المشكلة أمامهم واضحة جلية، فعمدوا إلى إيجاد وظائف لهم من خلال مراكز تعليم مؤقتة مخصصة للسوريين، ثم ألحقوهم بدورات خاصة بالمعلمين في فترة العطلة الصيفية، تمهيداً لإدماجهم في النظام التعليمي التركي شيئاً فشيئاً. بل وحتى أعطتهم الحكومة التركية الأولوية في الحصول على الجنسية التركية التي بدأت بمنحها للسوريين في شتى أنحاء البلاد.

يقول حسن: بدأ الأمر بفكرة، وسرعان ما نمت وانتشرت. واستطعنا جمع عدد كبير من المعلمين وحملة الإجازات في تكتل واحد أشبه بالنقابة، ثم تواصلنا مع جهات أهلية تركية أوصلتنا بدورها بجهات حكومية، وهناك شاهدوا حالتنا بكل وضوح، وطرحنا كل مشاكلنا بكل قوة واقتدار وثقة، فلم يكن أمام الجهات المسؤولة إلا التجاوب مع طلبتنا وإيجاد الحلول الناجعة لإيقاف معاناتنا والاستفادة القصوى من خبراتنا التي هي خبرات مفيدة للمجتمع المحلي قبل أي شيء آخر. لم أكن أدري أن كلمة السر في قصتنا كلها هي (التشبيك)! ولو كنت أعلم ذلك بوضوح انا ورفاقي لقمنا به منذ وقت طويل جداً، ولكن المهم أننا أدركنا عقدة الحل في نهاية المطاف، وأن تصل متأخراً، خير من أن لاتصل أبداً .

Commentaires


bottom of page