top of page
بحث
  • صورة الكاتبمحمد حسن أطرش

لا تقترب من الصنم!

تاريخ التحديث: ٢٦ يوليو ٢٠٢٣


الصنم

حسناً ... لا نختلف معكم أبداً في أن السيد رجب طيب أردوغان هو رجل دولة من الطراز الأول، وبان ٍ ومصلح كبير، وأنه قد قام بعدد هائل من الانجازات في شتى الأصعدة، وأنه فعلاً قد انتصر للتيار الديني المحافظ في تركيا بعد قرابة قرن من التهميش والإقصاء والاضطهاد. هذه كلها أمور لا ينكرها منصف ولا يتعامى عنها عاقل أياً كان توجهه أو ميوله. أما مسألة بقاء السيد أردوغان في السلطة أو عدم بقاءه – بعد 20 عاماً من الحكم - فهو أمر منوط بالكامل بصناديق الاقتراع، وبما سترتئيه الغالبية العظمى من الشعب التركي، وهذا أمر لا يعنينا هنا وليس هذا محل نقاشنا اليوم.


مايثير في نفسي – ونفس كل انسان عاقل محايد معتدل – أعتى آيات الاستهجان والاستنكار هو موقفنا نحن العرب في كل موسم انتخابي تركي، وتلك الحالة من الهلع والفجائعية إزاء احتمالية خسارة أردوغان وحزبه لأي استحقاق انتخابي، وتلك الحالة الأبدية من الانسياق في حمى القطيع وانغسال الأدمغة، بعيداً عن أي عقلانية أو صوابية أو حكمة.


في هذه الحالة، فإن غثاء السيل من الشعوب العربية مختلف كل الاختلاف عن الحالة التي يعيشها الناخب التركي المؤيد لأردوغان أو للتيار المحافظ عموماً ! فعدا عن الفارق الرئيسي المتمثل في أن فوز أردوغان من عدمه لا يعني ولا يهم المواطن العربي في شيء – بعكس المواطن التركي المعني أصلاً بهذا الشأن في المقام الأول – فإن الفارق الهام هنا هو أن المواطن العربي قد قرر اتخاذ أردوغان صنماً له عن سبق الاصرار والترصد ... ومادام الرجل قد تحول إلى (صنم)، فالبقية معروفة، ولكم أن تتخيلوا الحالة.


لماذا كل هذا التقديس والتأليه؟ لماذا تنقضّ جحافل الذباب على كل من ينتقد – ولو بدافع الغيرة والمحبة – بعض تصرفات أردوغان ومواقفه؟ لديّ سؤال واحد فقط أسأله لجموع غثاء السيل التي لا تجيد سوى ترديد الشعارات كالببغاوات وسب وشتم كل من يتناول صنمها الحبيب بالنقد والتمحيص: من هو الأفضل في كل المجالات ... القيادية والعدلية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية ... أردوغان أم عمر الفاروق رضوان الله تعالى عليه؟ أجيبوني بالله عليكم!


ومادام الجواب معروفاً حتى لأكثركم تعصباً وتطرفاً في عشق وتأليه الصنم، فدعوني إذاً انتقل للسؤال التالي: هل كان في زمن الفاروق من يطبل ويزمر له، ويؤلهه ويقدسه بهذا الشكل؟ هل كان الشعراء يصطفون على بابه لكيل معلقات المدح والتعظيم، وتحتشد الجموع تحت شرفة قصره للهتاف باسمه؟ هل كان الناس ينادون في الأسواق محذرين من ذهاب عهد عمر، وأن الأمة كلها ستنهار إذا ذهب عمر أو مات عمر أو خسر عمر في الانتخابات؟ هل كان الناس يهجمون على من ينتقد عمر وينصحه، ناهشين لحمه وممزقين جسده شر ممزق؟


الجواب أيضاً معروف، بل أزيد على ذلك أن الصحابة والناس في عهد عمر كانوا – برغم كل عدله وتقواه وشخصيته القيادية الصارمة – يشددون عليه ولا يكفون عن تقويمه وانتقاده، ولا يبالغون في تعظيمه أو توقيره، بالرغم من مكانته العظيمة التي يعرفها الجميع. فماذا دهاكم؟ ولماذا كل هذا التقديس والتأليه لرجل هو في النهاية موظف ... أو رجل مرحلة ... أو في أحسن الأحوال: قائد ناجح ورجل دولة أدى دوره مشكوراً والسلام؟


إحدى المنصات الأخبارية العربية في تركيا، والمعروفة بأنها دائمة التطبيل والتزمير والتلميع لأردوغان وحزبه، كتب أحد محرريها منذ أيام منشوراً مختلفاً قليلاً عن السياق المعتاد لمنصته – وبدرجة خفيفة للغاية – ينصح فيها حزب العدالة والتنمية بأن يخرج قليلاً من خطاب الحجاب والدين والمساجد، ويتحدث مع الشعب بخطاب الاقتصاد والدخل والطعام كما تفعل المعارضة التركية ... وكان الكلام مجرد نصيحة من الداخل، يعني من مؤيد ومحب .... ولك يا عزيزي أن تتخيل كيف كانت التعليقات على هذا المنشور من جحافل عبدة الأصنام ومغيبي الوعي!


فبالرغم من أن المنشور كان هادئاً وعقلانياً وصادراً من محب ومؤيد لأردوغان، إلا أن الجماهير (امتعضت) لمجرد النصح فقط! فالمعبود المؤله الذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه لا يخطئ أبداً في عُرفهم ... ولا يجوز حتى نصحه من باب المحبة والغيرة والمصلحة! والويل كل الويل لمن يجرؤ على انتقاده أو المساس بقدسيه ذاته السلطانية العلية!


وإذا كانت ردة الفعل هكذا تجاه من ينصح من منطلق المحبة، لكم أن تتخيلوا إذاً كيف تكون ردة فعل أولئك الغوغاء إذا سلط أحدهم الضوء على أخطاء معبودهم، أو شنّع عليه في النصح والتقويم، أو حتى كان معارضاً له ولكل مساره ... ردة الفعل هنا قد تصل إلى إهدار الدم طبعاً، ولو كانوا أمام هذا المنتقد وجهاً لوجه لصلبوه أو علقوا مشنقته فوراً ودون أي نقاش!


طبعاً لا يعاقب القانون التركي من ينتقد الرئيس مهما علا صوت هذا النقد ومهما بلغ عنفه، ولكن بالنسبة لغثاء السيل العربي الذي تربى على أيدي جمال عبد الناصر وصدام حسين وحافظ الأسد ... فالويل كل الويل لك إذا اقتربت من الصنم ولو بهمسة، او قذفته ولو بوردة!


عجيب حقاً كيف لم تستطع الشعوب العربية أن تتخلص من عادة عبادة الأصنام إلى يومنا هذا، بل على العكس، تترسخ هذه العادة منذ بدايات القرن العشرين إلى يومنا هذا، وتتأصل في مستنقع الجهل واللاوعي العربي، وتضاف إلى القائمة الطويلة العريضة من الأمراض والعقد النفسية للشخصية العربية، والتي هي – بطبيعة الحال – نتاج قرون طويلة من التجهيل وتغييب الوعي ومسخ الشخصية.


فمن عبادة عبد الناصر، إلى عبادة صدام حسين، إلى عبادة هذا وذاك من الرؤساء والملوك والقادة، استيقظ الانسان العربي المهزوم المصدوم المحطم – وخاصة بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية وأحداث 11 أيلول وغزو العراق – ليجد أمامه فجأة معبوداً جديداً يصلح وبشدة ليكون صنم المرحلة القادمة ... وهذا المعبود كان أردوغان، ولايزال إلى يومنا هذا.


أعود وأقول، أنا هنا لست بصدد نقاش شخصية أردوغان بحد ذاته، ولست بصدد وضعه في أي ميزان، ولست حتى بصدد مناقشة موقف مؤيديه من الشعب التركي، ولا بصدد مناقشة مستقبله ولا مآلاته ولا مشاريعه ... إنما ما يعنيني هنا هو حالة القطيعية والصنمية التي تعيشها الشعوب العربية إزاء أردوغان بلا أي وعي ... وهكذا فقط، لمجرد أن يعيشوا هذه الحالة.


فمتى نشفى من عقد النقص هذه؟ متى نتوب عن عبادة الأشخاص وتأليه القادة؟ متى نفهم أن الشخص الجيد والقائد الصالح – مهما علت درجة صلاحه – هو في النهاية مجرد بشر ... يخطئ ويصيب وقد ينحرف في فترة من الفترات! ومتى نفهم بأن صلاح أمتنا وبقاءها مرهون فقط بتسلحنا وتسلح أولادنا بالعلم والوعي والحكمة والعقلانية والتنزه عن تأليه الفرد والتوبة عن الانقياد خلف حمى الشعارات؟ متى نفهم ونستيقظ؟


متى سنتعلم أن نصغي للآخر، ونتقبل وجود الاختلاف، ونحترم آراء الأغيار؟ وحتى لو أزعجنا الاختلاف ... فمتى نتعلم أدب الاختلاف ومتى نتعلم كيف نضبط أنفسنا عندما نجابه بما لا يعجبنا أو ما لا يرضينا؟ متى تنضج عقولنا، ونترفع عن تلك المراهقة الفكرية التي حصرت الصوابية والصلاح والاستقامة في فكر واحد، وعقيدة واحدة، وحزب واحد، بل وحتى رجل واحد؟


منذ 12 عاماً اشتعل الربيع العربي في طول الأقطار العربية وعرضها ... وكان الهدف – أو هذا ما أشيع وماقيل – هو تحرير الانسان العربي واستعادة كرامته وحريته ... ولكن وبعد عقد من الزمن، وبعد أنهار من الدم وأميال من الخراب وأكداس من العفن الفكري المتراكم في منصات التواصل (اللااجتماعي) ... بات واضحاً أن تحرير الانسان العربي لا يزال بحاجة إلى الكثير من العمل والزمن والجهد ... وأن تحريره دون أدنى شك يبدأ من تحرير عقله أولاً من براثن إرث سحيق عميق من الجهل وظلام الفكر وغياب الوعي ... وعندها، وبعد أن يتحرر عقله، سيتمكن من تحرير أرضه واستعادة كرامته وحريته، أما إن لم يفعل ... فلن يزيد الأمر إلا عن تبديل صنم بصنم، والانتقال من جهل إلى جهل، وتغيير حزمة شعارات بحزمة شعارات أخرى ... وسيبقى الشعار الأهم (الغير معلن) دائماً وأبداً هو: إياك أن تقترب من الصنم!


١٨ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page