top of page
بحث
  • صورة الكاتبمحمد حسن أطرش

مغالطة "تهجير حلب".. بين المأساة والتلفيق

تاريخ التحديث: ٢٦ يوليو ٢٠٢٣


تهجير حلب

بخصوص ذكرى مأساة سقوط حلب منذ ست سنوات، لا يزال في فمي ماء كثير كثير حول هذا الفصل الأليم من تاريخ الثورة السورية، وكلام كثير لن يعجب أي طرف من أطراف الصراع السوري (الذي شذ عن مسار الثورة أصلاً منذ زمن طويل) للأسف.


لكيلا أطيل عليكم، أريد الحديث عن أمر واحد الآن لم احتمل السكوت إزاءه وأنا أتابع منشورات (الجانب الثوري) خلال الأيام القليلة الماضية، والتي حفلت بعنوان بارز طويل عريض هو (تهجير حلب)! وهذه مغالطة كبرى، وكذبة من الكذبات الكثيرة التي ساقها بعض من أساطين ومطبلي الجانب الثوري، والتي تثبت أن احترافية الكذب وتزوير الحقائق لم تكن مقتصرة على النظام وشبيحته فقط (وأقول هذا بكل أسف، وكل منصف ورزين من الثوار يعرف أنني محق في ما أقول).


بكل شك كان سقوط حلب في أواخر عام 2016 فاجعة حقيقية للثورة والثوار بكل المقاييس، ولكن من قال بأن المأساة كانت في التهجير؟ بل وهل يحق لنا بالأرقام والحقائق وموازين التاريخ والجغرافيا والسياسة وعلم الاجتماع أن نقول بأن ماحدث كان (تهجيراً) ؟ ثم نختزل المأساة كلها في هذا المساق؟


لا أدري أحصل هذا من جانب الثوار جهلاً أم قصداً، ولكن فجائعية سقوط حلب ومأساة النهاية الأليمة التي وضعت حداً لقوى الثورة في أحياءها وشوراعها وأزقتها – بغض النظر عن مآلات وأسباب هذا السقوط – لم تتمثل أبداً بمجرد خروج 60 ألف شخص فقط بالباصات الخضراء من الجانب الشرقي للمدينة! ثم لنأتي بعد ذلك ونصف هذا الحدث بأنه (تهجير) بكل مافي هذه الكلمة من هول وضخامة ومسؤولية تاريخية كبرى!


فبعيداً عن أية عواطف أو شعارات ثورية، عندما تصف خروج 60 ألف شخص فقط من بضعة أحياء مدمرة – وكانت أصلاً قبل الثورة مهمشة ومنسية – تنتمي لمدينة تعداد سكانها خمسة ملايين، ولا يزال إلى يومنا هذا يسكنها مالا يقل عن مليونين، ويكون أكثر من نصف أولئك الـ 60 ألف ينتمون لخارج حلب المدينة – من الريف أو من خارج المحافظة أصلاً – ويكون أكثر من نصفهم أيضاً مقاتلون عسكريون في الفصائل الثورية ... عندما تصف هذا كله بأنه (تهجير لأهل حلب)، فأنت تقتل مصداقيتك الثورية قبل أي شيء آخر، عدا عن مصداقية التاريخ والحقيقة.


بكل تأكيد، هناك من بين الـ 60 ألف الذين خرجوا من هم من أهل حلب وأبناءها الأصيلين العتيقين، وبكل تأكيد أنا لا أستخف بمعاناتهم أو ألم تهجيرهم، ولكن الحديث عن التعاطف والتضامن شيء، والحديث عن وقائع التاريخ والانحياز للحقيقة شيء آخر تماماً!


ليس هذا فقط، فالنتيجة التي تلت ذلك أن نظام الأسد وإعلامه وشبيحته أجادوا استغلال (مغالطة التهجير) بشكل رهيب، ليثبتوا أن حلب لازالت عامرة بأهلها، وأن الحياة فيها لا تزال مستمرة بل وأحسن مما كانت عليه! ومن باب الحيادية والتجرد المطلق، وبعيداً عن أية عواطف ثورية أيضاً، لا أعتقد – شخصياً – أنهم كاذبون كثيراً في هذا الزعم! فكل الحقائق والأرقام تثبت أن الوضع في حلب قد أصبح أفضل مما كانت عليه أيام الانقسام (الثوري / الأسدي) من حيث الأمن والاستقرار والبنية التحتية على الأقل، وأن الكثير من أهل حلب وعائلاتها الأصلية لا تزال مقيمة فيها بل ومتشبثة بالبقاء.


فما رأيكم ... دام فضلكم؟ طبعاً كلامي هذا لن يعجب الكثيرين من شبيحة الثورة ومتعصبيها، إلا أنه حقيقة ... والحقيقة كالشمس، لا يمكن حجبها بغربال مهما فعلنا وأنكرنا! وانظروا ماذا كانت عواقب الكذب والتزييف وقصر النظر ... أننا خسرنا حلب، وخسرنا أي مكسب معنوي كان يمكن أن نظفر به بعد سقوطها.


بيت القصيد: ماحدث في حلب لم يكن تهجيراً، وإنما إسقاطاً لرمز ثوري كبير، وحصن مادي ومعنوي كان دعامة كبرى من دعامات صمود الثورة السورية ورمزية وجودها على الأرض! وهذا ماكان يجب على ثوارنا (الأشاوس) أن يركزوا عليه في إعلامهم ومناصرتهم ومحافلهم! أما تلفيق هذا الحدث المهول ووصفه على أنه (تهجير) – وهو ليس تهجيراً بكل المقاييس – فقط لكسب بعض التعاطف المحدود هنا أو هناك وممارسة بكائيات لن تنفع قضيتنا في شيء ... فهذا هو قمة الإفلاس والخواء! ولإن كانت هناك جهات معينة حاولت الدفع عمداً بهذا الاتجاه رغم معرفتهم بزيفه ومغالطته، فأنا أجرؤ على القول بأن هذه الجهات لا تعرف من (الثورة) إلا حروفها الأبجدية، هذا إن لم تكن جهات مرتزقة بل وعميلة.


مأساتنا في هذه الثورة كانت في التركيز على السفاسف والأهداف الآنية المحدودة في كل شيء! عسكرياً وإعلامياً وإغاثياً ومجتمعياً، وهذا – باختصار مخل – هو ما أوصل الثورة إلى هذا الحضيض الذي نعيشه اليوم! حدث مهول كسقوط حلب لو تم توظيفه إعلامياً وسياسياً بشكل سليم، كان كافياً لقلب كثير من الموازين، ومنع سقوط كثير من المناطق التي تلتها بعد ذلك، ولكن بدلاً من ذلك عمدنا إلى اللطم والبكاء ووصف ماحدث على أنه (تهجير) فقط لا أكثر، وكأن حلب هي مجرد ضيعة منسية مهجورة على الحدود السورية التركية، لا عاصمة الشمال السوري وثاني أكبر المدن السورية!


أعود وأقول ... سقوط حلب كان أكثر حدث مؤلم في الثورة السورية، وأنا شخصياً سقطت مريضاً طريح الفراش لمدة عشرة أيام كاملة بعد سقوطها، وأزعم أن سقوط حلب كان بالنسبة إليّ حدثاً غيّر خارطة روحي وفكري وعقيدتي بشكل جذري، وجعلني أراجع الكثير من القناعات والمسلّمات التي كنت اعتنقها، وأكسّر الكثير من الأصنام التي كنت أعظّمها وأسبح بحمدها فيما مضى.


ولكن هل كان هذا الحدث الذي زلزل كياني مرده إلى أكذوبة التهجير؟ بالطبع لا! وإنما لأنني رأيت أمام عيني قلعة كاملة تتهاوى، وقضية عظيمة يتم دق أول مسمار في نعش اغتيالها ... هكذا بلا أي زيادة ولا نقصان ولا تهويل ولا تقزيم.


اليوم، وبعد مرور ست سنوات على انهيار الحلم، وضياع القلعة الحصينة التي أثبتنا أننا لسنا أهلاً لنكون فرسانها وحماتها ... اليوم وبعد كل هذا الدم والدمار والتهجير، هل وقفنا كثوار وقفة مراجعة عسيرة أمام أنفسنا وأمام كل الأكاذيب التي كذبناها والمغالطات التي لفقناها؟ هل حاسبنا أنفسنا حساباً عسيراً لنرى إن كنا فعلاً أفضل من هذا النظام اللعين الذي حاربناه وثرنا ضده؟ هل كل واحد فينا راض عن هذا المآل الذي آلت إليه الثورة؟ هل كان هدفنا في الثورة فعلاً أن نخلّص هذا الوطن ونعتق هذا الشعب ونبني حضارة حقيقية؟ أم أن هدف كل واحد فينا كان متمثلاً فقط في المكاسب الشخصية مادية كانت أم معنوية .... فقط لا غير؟؟؟


أسئلة صعبة، وإجابات مستحيلة، وواقع أسود ... والأدهى أننا لا زلنا مصرين على أن نكذب على أنفسنا وعلى العالم كله.

٣٦ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page